التاريخ وكيف ينبغي دراسته بقلم الدكتور ( عبد الرحمن ادريس صالح )
التاريخ وكيف ينبغي دراسته:
الدكتور:عبد الرحمن إدريس صالح
رئيس قسم التاريخ ـ كلية التربية(الأصمعي)
يوم بعد آخر أجد أن دراسة التاريخ تزداد أهميتها، وعلى الرغم من حجم التقدم العلمي الذي تقطعه العديد من العلوم في مجالات الحياة المختلفة، فإن علم التاريخ لا يزال يدعم مكانته أمام هذا التقدم فيواكب ذلك التطور السريع المتلاحق بخطى لا تقل سرعتها وديمومتها وقدرة التعزيز فيها عن غيره من العلوم الأخرى، إلا ان خطورة التاريخ كعلم تكمن في طريقة التعامل معه، إذ ان مفهوم الرؤية في التاريخ يشكل تهديداً خطيراً لهذا العلم، فعلى المؤرخ ان يؤدي دوره على مسرح الحياة ويؤثر فيها كما يؤدي المهندس والطبيب والكيميائي دوره، اما الانتقائية والتحيز غير المبررين من الناحية العلمية، وتزييف الحقائق والوقائع والاحداث احياناً ذلك كله يتنافى ومهمة المؤرخ الاجتماعية والتاريخية قبل تناقضه التام مع مهمته العلمية، وان أمر كهذا يشكل خطراً في مجرى كتابة التاريخ إذا ما تجرد المعني عن الموضوعية وأبتعد عن الأمانة العلمية0 وقد يجد بعضهم لرجال السياسة والصحفيين مسوغاً للخروج عن بعض الأساسيات في هذا المجال وذلك بهدف تحقيق الغاية المنشودة، إلا ان ذلك لا ينسجم وعمل المؤرخين الموضوعيين الذين يتعاملون مع الحقائق التاريخية،إذ ان المؤرخ كرجل علم هو أبعد ما يكون عن تلك الرؤية القاصرة، وعليه ان يتوصل إلى الحقيقة التاريخية كما هي دون رتوش أو مكياجات مصطنعة، ثم يقف مع الآخرين يحلل ويستنتج ويستنبط، وذلك الدور هو ما يمكن ان يكون الدور الحقيقي للمؤرخ منذ ان اصبح التاريخ علماً.
لاشك ان ما تقدم من سطور لا يعدو ان يكون وجهة نظر وحسب، غير ان ذلك الرأي هو ادق ما يمكن الاشارة إليه في فحوى المهمة الحقيقية للمؤرخ، إلا ان ما لا يمكن للبعض الاعتقاد به هو ان مهمة المؤرخ هذه تكاد ان تكون من اصعب المهام التي يواجهها المتخصصون في العديد من العلوم الأخرى حتى يستكمل وعيه لكامل مهمته، مثله كمثل العاملين في مجالات الفيزياء، والرياضيات والطب والزراعة والهندسة الوراثية، فإن ابرز وأهم فعالية اكاديمية تلقى على عاتق المؤرخ هي الاستنتاج والتحليل، وان هذا الإدراك ليس له ان يجد مجال الصواب دون المضي قدماً نحو الإدراك الأمثل لهذه المهمة الشاقة، من خلال الثقة العالية بالنفس لادراك تلك المهمة، إلى جانب التعلق بمهمة البحث عن الحقيقة، والاضطلاع بالالمام الواجب لتلك العلوم التي كانت يوماً ما علوماً مساعدة، واليوم باتت علوماً مكملة للعلوم المشار إليها، وتلك العلوم هي: اللغة، الادب، الجغرافية، الأديان، الاجتماع، علم النفس، الاثار، المخطوطات، السياسة، الاقتصاد، الحاسوب فضلاً عن الالمام الواسع بالفلسفة باعتبارها ركناً أساسياً لا يمكن تجاهله في إدراك حالة الوعي المستثمر من خلال التجربة التاريخية. ولا نكون مغالين إذا ما قلنا ان هذه العلوم يجب ان لا تكون وليدة حاجة وقتية يعود إليها المؤرخ حينما يشعر ان الحالة الواجب دراستها تقتضي العودة إلى هذا العلم أو ذاك، انما لابد من الالمام بها ان يترافق جنباً إلى جنب مع البدايات الأولى لدراسته للتاريخ، وتعليل ذلك ان تراكم المعلومات من مختلف الاتجاهات العلمية المختلفة سيؤدي بإدراك المؤرخ إلى استنباط مختلف الأفكار حول الحدث التاريخي أو الواقعة التاريخية، وسوف يدفعه إلى تكوين رأي أكثر توافقاً وموضوعية. الشيء الاكيد ان تلك المهمة ليست مهمة سهلة امام المؤرخ، غير إنها بأعتقادنا شيء لابد منه للقيام بالمهة الملقاة على عاتقه. وهناك جانب آخر يجب الأشارة إليه هو ان الكتابة التاريخية تستدعي من الكاتب ان يوفق بين ثلاثة اتجاهات رئيسة هي الامكانية الادبية في سرد الوقائع والعلمية في منهج بحثه وتوفر المقومات الفكرية لدراسة الواقعة التاريخية، وان ذلك كله لابد ان يمتزج في كل عبارة يدونها قلمه، وبطبيعة الحال ان هذه المهمة تستدعي منه ان يلم بما تقدم لتكون طروحاته قريبة إلى الاذهان مقبولة من ذوي الاختصاص وغيرهم.
أجد ان هذا القول ينطبق تماماً مع الحقيقة والواقع إذا ما أراد المؤرخ ان يكون قادراً على التواصل مع مهمته، وحينما نشير هنا إلى (الالمام) لا يعني ان ذلك يستعدي دراسة معمقة للعلوم المشار إليها، انما إدراك الخطوط العامة لها، نظراً لارتباطها بالمهمة المطلوبة من المؤرخ، وعلى القدر الكافي الذي يؤهل المؤرخ لان لا يقف عاجزاً امام إدراك حيثيات الحدث التاريخي أو فقدانه القدرة على التدليل عن ما هو مطلوب منه.
ان وجهات النظر هذه لا تبدو مثالية أو أنموذجية إذا ما ادركنا ان ذلك كله لا يمكن له ان يولد ويؤتي ثماره في ليلة وضحاها، فمثل هذا الوعي الأمثل لوظيفة المؤرخ الحقيقية والاطلاع الواسع والقدرة العالية على تسخير كافة الامكانيات المتوافرة لهذا الغرض، كونها تعد نهجاً وتصرفاً ليس بإمكان المؤرخ ان يحيد عنه، بعد ان يهب نفسه لمهمة البحث العلمي التاريخي، ويدع جانباً ان يكون ذلك وسيلة للارتزاق قبل ان يكون ذلك وسيلة لفهم الحياة وتفسيرها على أساس فهمه لمهمته التي اختارها.
ولابد لنا ان نتساءل بعد كل ذلك، هل بامكان أي شخص القيام بهذه المهمة؟ الجواب طبعاً هو نعم اذا ما كنا متفائلين معتقدين بألمام ذلك الشخص بكل تلك الصفات التي اشرنا إليها والتي هي صفات تؤهل المعني ليكون مؤرخاً ناجحاً0 فعلى الرغم من ان بلدان العالم الثالث تمر بحالة من التخلف والتمايز الاجتماعي ان صح التعبير، فإن بلوغ العالم مرحلة من النضج والوعي، اودت بكافة المحاولات التي قصد بها التضليل والسيطرة على العقل البشري، وان تجاوز العالم مرحلة ما بعد الصناعة جعلت من التطورات المتعددة (برغم أهميتها في مرحلتها التاريخية) شيئاً قديماً أهلكتها تسارعات النمو الحاصل في جميع العلوم، فضلاً عن الوعي الاجتماعي الذي فاق تلك العلوم إلى حد كبير، وبذلك أزيلت فكرة الطبقة التي تحصل على ما تريد دون ان تدع الطبقات الأخرى تحصل عليه من هذا الجانب، لذا فإن ولادة الفهم الأمثل للحقيقة أصبحت في متناول الجميع بعد ان تفشى في دول العالم الثالث (مرض حميدي اسمه) التفكير العلمي رغم إرادة جميع الذين يقفون على سدة الأمر في تلك الدول في مختلف القارات، وهذا لا يمكن له إلا ان يكون عاملاً مساعداً في تسهيل مهمة المؤرخ إلى حد بعيد.
وشكراً
عبد الرحمن إدريس صالح