
المتعة الذهنية في (قنبلة الزمن الأسود) أ.د. اياد عبد الودود الحمداني ناقد أكاديمي
المتعة الذهنية في (قنبلة الزمن الأسود)
أ.د. اياد عبد الودود الحمداني
ناقد أكاديمي
تُعدُّ قصص (قنبلة الزمن الأسود) واحدة من الأمثلة الإبداعية المعاصرة ذات الطابع المتمرّد على الجنس الأدبي؛ فهي في الوقت الذي تًظهر فيه سرداً بريئاً يبتعد عن التقانات والأنماط السّردية الحديثة نجد هذه القصص تحقّق تفاعلاً مع عناصر البنية الإبداعية؛ إذ إنها تستدعي المتلقي بقوّة لما تحقّقه من غرابة وأخيلة وتصوير ينسجم مع المتعة الذهنية المرتبطة أحياناً بالحَدْس والخرافة والمبالغة والفلسفة وغير ذلك، ويبدو واضحاً أن توظيف الخيال هو سرّ حضور الأثر في الإبداع السّردي، وعلى الرغم من إن (قنبلة الزمن الأسود) هي المجموعة القصصية الأولى للمؤلف فإنّ الخيال الفاعل كان عنصراً مهيمناً يكبح جماح العقل الواعي للمبدع الذي يبحث في بلورة المُثُل العليا وتفعيل الفكر وتسويق مهيمناته.
أحبَّ رائف أمير اسماعيل الأدب وعاش أجواءه في جلسات اتحاد الأدباء في ديالى ورابطة بغداد الثقافية في بغداد، وغيرها، وتنوعت مصادر المعرفة عنده، لكنَّ الفلسفة كانت المولّد الأول لإبداعه، فضلاً عن تأثّره بأفكار علمية صرفة دعتْهُ إلى تأليف كتب قريبة من تخصّصه بوصفه مهندساً، منها كتابه الموسوم بـ(آلية إنتاج الفكر في دماغ الإنسان – نظرية الشبكة العنكبوتية)؛ وبحوثه في الفلسفة العلمية، ومداخله المهمة في تفسير ظاهرة التنويم المغناطيسي، وكذا تأملاته البحثية في مستقبل الكائنات الحيّة على كوكب الأرض، وقاده خياله أيضاً إلى التفكير بقضايا إنسانية كثيرة وكبيرة يتداخل عندها الخيال بالواقع، تجعل هذا النوع من الإبداع الأدبي ذا إشكالية إجناسية يتحوّل فيها السّرد إلى نقطة مضيئة ترتبط بالتفاؤل، وتحقيق رسالة الإبداع.
يبدو لي أن التفكير الأسطوري كان واحداً من أهم العناصر التي جعلت المتلقي مستقطِباً وحاضراً في الأعمال الإبداعية، وقد تحقق هذا بسبب ترصين أسس البناء الفكري واستحضار الموضوعات العلمية والفلسفية، وتحقيق المتعة الذهنية المضمونية.
إن أوّل ما يلفت انتباه قارئ (قنبلة الزمن الأسود) الإهداء بوصفه عتبة أولى تتحقق عندها عملية الإغراب، ولاسيما عند تصريحه باسم والدته، حين يستحضر عندها معانيَ عديدة.
اتسمت هذه المجموعة القصصية بسمات يمكن تلخيصها في الآتي :
1- يُعدّ الغموض سمة جمالية ترتبط بمقولة ما يؤْرقُكَ ثمَّ يروقُ لك.
2- جاء توظيف المتعة الذهنية، نتيجة طرح الأفكار الفلسفية، منها ما تحدّث في الصراع الطبقي، والصراع الفكري، ومواجهة الفكر الرجعي.
3- يعدّ الخيال مولّداً أساسياً لشعرية (poetics) النصوص القصصية، وإنْ كانت ذات واقعية في الكثير من صورها، ولاسيما ما يرتبط بالتفكير السياسي، ويتضح ذلك في قصته (سعيد العتّال) الذي يحمي وزيراً من الموت وقد انتهت بخاتمة مذهلة تستشرف انتصار الحقّ والقيم النبيلة.
وفي قصة (معادلات الزّمن الصعب) شرّح الإرهاب، وبرّر وجودَهُ بفشل نظام الحكم، وهذا النصّ يجعل القارئ يدور في جدليّة الخير والشرّ من خلال فكرة تجمع بين خبّاز ومدرس فيزياء !!
4- تتناغم هذه المجموعة القصصية مع مقولات ما بعد الحداثة Post – Modernism؛ إذ إن التمرّد على الشكل المكرور بدا واضحاً؛ فما بعد الحداثة فلسفة تعبّر وتتساءل بطريقة ذهنية متمرّدة.
5- تتّسم بعض قصص المجموعة بطابع ميتافيزيقي وفلسفي كما في قصة (مسيرة) و(أرجوحة) وغيرهما.
6- يوظّف القاصّ الصورة البَصرية في الكثير من الأحيان لإظهار ظلال المعاني ولاسيما ما صرّحت به قصته (حقيقتنا) – وهي أول قصص المجموعة – التي انتهت بصورة الورد المقطوف الذي لُصِقَ على لوحة خشبية كبيرة في غرفة طفل على شكل عبارة : (لا تقطف الورد) !! محققاً تداعيات هائلة ترتبط بعنوان القصة.
7- كثيراً ما يُظْهِر الكاتب أيديولوجيا الانتماء الكوني والأممية المرتبطة بتأثيرات العولمة، ولا سيما في قصة (قنبلة الزمن الأسود) التي اختارها عنواناً لمجموعته، وهذه القصة تفيد من السخرية والكاريكاتور في مخاطبة العقل.
8- تتجاوز الأخيلة في بعض القصص الحدود لتحقق حالة الفزع، ولاسيما عند اقتران التصويرية بذكر الموت؛ كالذي حصل في قصة (يد الحياة) المُفْزِعَة التي تظهر فيها امرأة مدفونة تصحو من موتها بسبب انفجار، فتخرج من القبر باحثة عن وَلَدِها بين أنقاض البنايات المنهارة.
9- خَصَّصَتْ هذه المجموعة القصصية مجالاً واضحاً لمهاجمة فوضى التفكير الديني، وكشفت قصة (OK) زيف رجال الدين، وقد ألمحت القصة بطريقة فنطازيّة إلى اقتران هيمنة الجهل بالاحتلال حين ذُيّلَت بتاريخ 9/4/2013 (تاريخ كتباتها)، وهي ذكرى الاحتلال الأمريكي للعراق.
10- كانت الغرابة عنصراً مهيمناً على المجموعة؛ فهي الوظيفة الأولى التي تؤكد على العقل الإبداعي المنتج لمبدِع القصص.
11- شغل الخيال العلمي Science Fiction مساحة مهمة مثلت نواةً لمنجز رائف أمير اسماعيل الإبداعي، وكان خياله العلمي من النوع الناعم Soft Science Fiction الذي يوظف المنجز العلمي بشكل عَرَضي كي يعالج المشكلات النفسية والفلسفية والسياسية والاجتماعية، ويبدو واضحاً أن المبدع وجدَ نفسَهُ في (الخيال العلمي) ولاسيما الناعم كما في قصص : حدْس، بريء، أشقاؤنا في السماء وغيرها.
أخيراً أقول :
إن المبدع رائف أمير اسماعيل ظاهرة فنية وفكرية فريدة؛ لأن أعماله تخاطب الذهن وتنصر العلم والقيم النبيلة، وينأى بنفسه عن تقليد سابقيه، ليحقق مستوى من الابتكار يُهيّئ أرضاً خصبة لأعمال أخرى ترسّخ حضوره الفكري، لتحقيق وظيفة الفنّ وترصين أسس البناء التي تحقق (المتعة الذهنية) ذات البعد التطهيري الأرسطي الذي يثير عاطفتي الشفقة والرحمة.