بسم الله الرحمن الرحيم
فلسفة الاتجاه الاجتماعي في الكتابة والنقد والبحث العلمي
أ. م . د . ندى موسى عباس
قسم التاريخ
مما لاشك فيه انه لا يمكن لأي كاتب أو مؤرخ أو ناقد مصلح أو باحث أكاديمي ، من أدراك المصداقية وتحقيق النسبة العالية في دقة نتائجه ومقاربة تحليلاته للواقع ، بدون أن يكون ذا فكر شامل واطلاع واسع ، لجوانب حضارية واجتماعية متنوعة في معارف وثقافات العصر الذي يبحث فيه ؛ فالتقنيات والآليات المتطورة التي يستخدمها والبيانات التي يكدسها ليست هي الغاية بحد ذاتها ، إنما هي وسيلة للوصول إلى نتائج وإثباتات تهدف إلى تفسير أبعاد ومكونات وظواهر الحياة الإنسانية ، وعليه فالمدخلات السياسية والاقتصادية والثقافية ( الفكرية والدينية والفنية ) لها أثر بين في نتائج البحث الأكاديمي .
لقد تجول الفيلسوف والمؤرخ اليوناني هيرودوتس Herodotes ( 484 – 425 ق . م ) في قارات العالم القديم الثلاث ؛ فأسهب في وصف شعوب مدنها التي ساح بها ، في أخلاقياتها وطبائعها وعاداتها وطعامها ولغتها وديانتها وخصائص أجناسها ، فضلا عن تاريخها وجغرافيتها وحتى بيئتها الفلكية . الأمر الذي دفع الكاتب والخطيب والمنظر السياسي الروماني شيشرون Cicero ( 106 – 43 ق . م ) إلى ان يلقبه بـ ” أبي التاريخ ” ! هذا اللقب الذي علق به منذ ذلك الحين ، والذي أستحقه عن جدارة .
كانت تصورات الفيلسوف اليوناني أفلاطون Plato ( 427 – 347 ق. م ) عن تكون المجتمعات ، قد جعلت منه مفكراً اجتماعيا رائعاً ؛ إذ كان رأيه ان المجتمعات ما قبل التاريخ قد نشأت لأن الكائن البشري لا يستطيع الاكتفاء ذاتياً ؛ فلا أحد يمكنه أن يكتسب جميع ضروريات الحياة بمفرده . وأذن فالمجتمع غاية حتمية لوجود البشر واستمرارهم في الحياة ، وقد قسم أفلاطون طبقات المجتمع الضرورية لبناء أي مجتمع ، إلى فلاحين وبنائين وحرفيين ونجارين وصناع . وأشار إلى انه من الطبيعي ان تنشب خلال ذلك بعض الخلافات هنا وهناك ؛ فيكون وجود الحكومة مكمل للاختصاصات المذكورة ، كما ان الدفاع ضد الأخطار الخارجية وقيادتها وأدارتها يتم من قبل الحراس والحكومة والقضاء كمهمات إضافية لتنظيم المجتمع .
يعد الجاحظ ( 159 – 255 هـ / 776 – 868 م ) وهو الأديب المسلم والمفكر الناقد والمؤرخ والمتكلم ، أبرز وأهم من كتب بالاتجاه الاجتماعي في العصور الوسطى الإسلامية ، وقد أظهرت ملاحظاته مديات لعمق فهمه وحسن تفسيره للعوامل المسببة لحوادث تاريخية بارزة ومهمة ، وكذلك كان تعليله الذكي نوع من التنبؤ لعواقب بعض الظواهر الاجتماعية ، التي ملء بها كتبه ورسائله ؛ وبهذا يكون قد ساهم في تنبيه وتطوير الوعي التاريخي عند المؤرخين . بتقديمه لتأويلات وتعليلات فكرية وعقلية دقيقة لأسباب الحوادث ومسبباتها ونتائجها ، والخروج بقوانين وتنبؤات ؛ فقد تنبه الجاحظ على سبيل المثال لأوضاع الزنج الاجتماعية والاقتصادية المتردية ، وأشار إلى أنها أوضاع تنذر بالخطر وذلك قبل عشر ( 10 ) سنوات من وقوعها (255 – 270 هـ / 869 –883 م ) ، وقد استمرت خمسة عشر( 15 ) سنة ، ولم تخمد إلا بشق الأنفس . كما لاحظ الجاحظ ان المجتمع الإسلامي قائم على العوامل المعنوية والمادية فالمعنوية هي القيم والأعراف والدين ، أما المادية فهي الثروة والملكية والدخل ، وهي برأيه كانت الأكثر تأثيرا في المجتمع . ولقد أبدع الجاحظ في تشخيص الصفات الاجتماعية المسببة للصراعات والعداوات بين أفراد المجتمع العربي في العصر العباسي ، ومن أبرز هذه الصفات هي الحسد والحاسد ، فانه رأى ان العداوة تنتهي ، وان والحسد غض جديد لا ينتهي ، وانه حرم أو أعطي لا يبيد ؛ فكل حاسد عدو وليس كل عدو بحاسد وحسد الجاهل أهون شوكة وأذل من حسد العارف الفطن . ومن الصفات المسببة للكراهية والعداوة باعتقاده هي الطمع والجشع والتملق والمتملقين والنفاق والمنافقين والاستغلال والمستغلين .
فيما تميز إخوان الصفا ( عاشوا في القرن الثالث الهجري /التاسع الميلادي ) باهتماماتهم بالبيئة الأيكولوجية ( الطبيعية ) وأثرها على سلوك الناس في حياتهم الاجتماعية ، وصنفوا المجتمع بتقسيمه إلى فئات اجتماعية بحسب مهنهم . فان كل من الفيلسوف المسلم الفارابي ( 260 – 339 هـ / 874 – 950 م ) ، والفيلسوف والأديب والمؤرخ والطبيب والفلكي مسكويه ( 320 – 421 هـ / 932 – 1030 م ) لم يخفيا تأثرهما بآراء الفيلسوف أرسطو فمع ان الفارابي قد رسم صورة مثالية للمجتمع في مدينته الفاضلة ، مشبه المجتمع بالكائن الحي ( النظرة البنيوية ) لكنه وفي خضم تحليلاته لحقيقة الاجتماع الإنساني في دوافعه الأساسية رجع إلى آراء الفيلسوف أرسطو( 384-322ق.م) وقال : ” ان الإنسان حيوان اجتماعي بطبعه لا يستطيع الحصول على ما يريد من ضروريات حياته بمفرده “. أما مسكويه ورغم انه قد سبق معاصريه في رؤيته الأخلاقية للعلاقات الاجتماعية ، وبانها تقوم على المحبة الضرورية لتآلف الكثير من الناس ، مبينا أنواع هذه المحبة وشدتها وسرعتها وتكوينها ودوامها ، وبين مسكويه أهمية اجتماع الناس وضرورته في المناسبات الدورية كالصلاة والحج والمآدب والأعراس والمآتم ، لكونه مصدراً مهما للالتزام بالمحبة وبالشرائع والعادات والتقاليد في كل المجتمعات مهما تنوعت وأختلف طوائفها . لكنه عاد وركز على رؤية أرسطو في توضيح العلاقة بين الحاكم ورعيته .
أبدى المؤرخ القزويني ( 600 – 682 هـ / 1203 – 1283 م ) اهتمامه بالعلاقة ما بين الفرد والمجتمع وأسباب نشوء التجمعات والمراكز الحضارية ، الأمر الذي يدفع نحو المقارنة لأوجه التشابه بين فلسفته وفلسفة أبن خلدون ( 732 – 808 هـ / 1332 – 1406 م ) رائد ومؤسس لعلم الاجتماع في العصور الوسطى الإسلامية ، من حيث التقارب والتشابه في التحليل والتعليل للمواضيع الاجتماعية والحضارية ، ولاسيما في أسباب نشوء القرى والمدن ويشجع على أضافة القزويني إلى مسيرة الفلاسفة الذين من المحتمل ان يكون أبن خلدون قد تأثر بهم كالفارابي وأبن سينا والغزالي وأبن رشد ؛ فالقزويني مثلا يشير إلى أسباب اضطرار الأنسان إلى الاجتماع بغيره من الناس ، لكي تحصل الهيئة الاجتماعية لبقية الأفراد وينتفع بعضهم ببعض ، وذلك لعدم قدرته على توفير حاجاته الضرورية منفردا مستقلا عنهم ، وعليه فلن يتمكن من العيش وحده منفردا كسائر الحيوانات ، ويفصل القزويني في بيان الحلقات المتصلة في مسألة توفير الملبس والمأكل والمسكن ، ويرى القزويني أنه لأجل ذلك متى ما فقدت حلقة منها فان الهيئة الاجتماعية سوف تختل ، كالبدن الذي يفقد أحد أعضاءه فيتوقف أو يتخلخل نظام معيشة الإنسان . وتقوى المقارنة بين طروحات ابن خلدون مع طروحات القزويني وتشابههما أكثر فأكثر ، عندما نجد القزويني يوضح أسباب نشوء الخراب في البلدان مبتدأً من ظلم حكامها بقوله : ” عندما يكون السلطان ظالماً يعم الظلم واللاعدل في البلاد ويصيح الناس الضعفاء ، وحقوق الناس تبطل وتكبت ويصير الحكام مدمنين على ارتكاب الشر والعمل الخاطئ ، وهم يسيئون استخدام الموازين والمكاييل ويغشونها . عندئذ تتعطل وتحبس بركة السماء وينقطع هطول الأمطار ؛ فتجف الحبوب وتموت الماشية ، وذلك لان الحكام أحجموا عن فعل الخيرات والصدقات ، وكذلك بسبب إيمانهم الكاذب الذي أستشرى بينهم وازداد وعمّ المكر والحيل بين أوساطهم “ .
برز في عصر التنوير باوربا العصور الوسطى ، نموذج مؤرخ يقارب باهتماماته الاجتماعية المؤرخ هيرودوتس ألا وهو الفيلسوف والمؤرخ والكاتب والصحفي الناقد فولتير Voltaire( 1694 – 1778 م ) ، الذي يرجع اليه أطلاق مصطلح ” فلسفة التاريخ ” ، وسواء أكان فولتير قد تأثر بأبن خلدون ام لا ؛ فإنه كان لا ينفك يصدح برأيه مغرداً بقوله : ” لا أريد أن أكتب تاريخاً عن الحروب ، ولكن عن المجتمعات وأن أوكد كيف عاش الناس في دواخل أسرهم وعائلاتهم ، وما هي الفنون المشتركة التي هذبوها وارتقوا بها … ان موضوعي هو تاريخ العقل البشري وليس مجرد عرض تفصيلي للحقائق الجميلة . وسوف لا ألقي أهمية على تاريخ اللوردات والأسياد … ولكني أريد ان أعرف حقيقة الخطوات التي خطا بها الناس من العصور البربرية إلى المدنية “ .
لقد شهد العصر الحديث شغفا وحبا جماً من قبل الفلاسفة والباحثين للاتجاه الاجتماعي ، وبلغ الأمر بفيلسوف الاجتماع الفرنسي اوغست كونت Conte August ( 1798 – 1857 م ) إلى ان ربط بين كلمة الاجتماع Society وبين كلمة الشعب أو القبيلة باللاتينية لتصبح مصطلح المجتمع . ولم يكتفي أوغست كونت بذلك لكنه أطلق مصطلح تسمية ” علم الاجتماع ” لأول مرة في التاريخ وذلك في سنة 1830 م ؛ فبات ” أبو علم الاجتماع ” بحق ومنظره الأول في العصر الحديث . ويبدو تأثر أوغست كونت بأبن خلدون واضحاً نظرا للتشابه الشديد بين نظريات الأثنين فأوغست كونت هو الآخر قد شبه كما فعل ابن خلدون ، حياة المجتمع بحياة الرجل في أطواره الثلاثة الطفولة والشباب والكهولة . وقد عبر أوغست كونت عن علم الاجتماع بالفيزياء الاجتماعية لكونه يدرس العادات والتقاليد والعقائد المجتمع ، ويحلل طبيعة وظيفة المؤسسات السياسية والتشريعية والدينية والاقتصادية . وكان أوغست كونت يتمنى ان يجمع في أبحاثه كل العلوم والدراسات ، لا سيما تلك التي تهتم بأنماط الحياة البشرية لجميع شعوب العالم كعلم النفس والاجتماع والاقتصاد والتاريخ ، ليتمكن من دراسة الأمراض الاجتماعية وعلاجها. بمعنى انه أراد لعلم الاجتماع ان تكون مكانته بهذا التوحد مع العلوم الإنسانية ، كمكانة الفيزياء لعلوم الطبيعة . لكونه يدرس العادات والتقاليد والعقائد المجتمع ، ويحلل طبيعة ووظيفة المؤسسات السياسية والتشريعية والدينية والاقتصادية . وعلى العموم فان علم الاجتماع لم يتحول إلى علم مستقل إلا بعد ان أفترض أوغست كونت له منهجاً مستقلاً وقواعد منهجية ذات أدوات بحثية وتحليلية محددة وموضوعية .
ان البداية الطيبة والجهود المثمرة والتعاون المرضي بين الاختصاصيين ( المؤرخين وعلماء الاجتماع ) ، سجل انطلاقة قوية لبحوث ودراسات جديدة اكثر حداثة ؛ فادوارد شيلز Edward Shlis ( 1910 – 1995 م ) في أشارته إلى أهمية احتواء المواضيع والمعارف المتعددة ، يؤكد بإلحاح على ضرورة توفر الدليل التاريخي لعالم الاجتماع في دراساته وأبحاثه الاجتماعية ؛ فيقول : ” إن علم الاجتماع لهو جمع لشتات من الموضوعات المختلفة في موضوع واحد شامل ؛ فهو علم متعدد الجوانب يضم في داخله تيارات ومواقف متعددة قد لا يربط بينها إلا أثر تاريخي قديم ، أو مجموعة من الشخصيات التاريخية والمؤلفات القديمة “ .
رأى المؤرخون بعد الحرب العالمية الثانية ان استقلالية التاريخ ، إنما هي سوء فهم لشروط التقدم العلمي ؛ فكل فرع من فروع المعرفة لابد لها ان تعتمد على فروع وعلوم أخرى . وكانت العوامل جاهزة لأثار الفكر الفرنسي والإنكليزي والألماني ، وتحفيزهم لظهور النظريات السيسيولوجيا الجديدة ودراسة ما غفل عنه المؤرخين السابقين ، وفرض على الدراسات التاريخية أن تغيّر توجهاتها وتعيد فحص فرضياتها ، وأتباع مسارات بحثية غير المسارات التقليدية . ومن هنا انبثقت فكرة التاريخ الجديد في الولايات المتحدة الأمريكية بعد سنة 1955 م ، وكان المقصود به ان يكون تاريخاً شاملاً يهتم بكل الفعاليات البشرية ، وتكون القاعدة الأساسية له هي الاستعانة بعلم الاجتماع .
المصادر والمراجع :
1- سارتون ، جورج : تاريخ العلم ، ترجمة ابراهيم بيومي مدكور ومحمد كامل حسين وقسطنطين زريق ومحمد مصطفى زيادة ، دار المعارف المصرية ، القاهرة ، الطبعة الثالثة ، 1976 م ، ج 1 ، ص ص 155 – 264 ، ج 2 ، ص ص 166 – 167 .
2- محسن ، حاتم حميد : جدلية التماثل بين الروح والدولة في جمهورية أفلاطون ، صحيفة المثقف ، العدد 4010 ، لسنة 13 / 5 / 2017 م .
3- الجاحظ ، أبي عثمان عمرو بن بحر ( ت 255 هـ / 864 م ) : 1- الرسائل ، شرح وتعليق محمد باسل عيون السود ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، الطبعة لاأولى ، 1420 هـ / 200 م ، ج 1 ، ص ص 243 ، 248 – 249 ؛ الحيوان ، دار الكتب العلمية بيروت ، الطبعة الثانية ، 1424 هـ / 2003 م ؛ البخلاء ، منشورات مكتبة النهضة ، بغداد .
4- مسكويه ، أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب الرازي ( 421 هـ / 1030م ) : تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق ، تحقيق نواف الجراح دار صادر ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1427 هـ / 2006 م ، ص ص 94 – 95 ، 98 .
5- القزويني ، زكريا بن محمد بن محمود : آثار البلاد وأخبار العباد ، دار صادر ، بيروت ، ص ص 7 – 8 .
6- ديورانت ، ويل : قصة الفلسفة ، ترجمة فتح الله محمد المشعشع ، مكتبة المعارف ، بيروت ، الطبعة السادسة ، 1408 هـ / 1988 م ، ص ص 274 – 275 .
7- مالك بيار : دروس من الفلسفة ، التاريخ وعلم الاجتماع اختلاف وتقارب ، موقع منتديات الجلفة ، لبنان .
8- خضر ، عبد العليم عبد الرحمن : المسلمون وكتابة التاريخ دراسة في التأصيل الإسلامي لعلم التاريخ ، الدار العلمية للكتاب الإسلامي ، الرياض ، الطبعة الثانية ، 1415 هـ / 1995 م ، ص 49 .
9- باركلو ، جفري : الاتجاهات العامة في الأبحاث التاريخية ، ترجمة صالح أحمد العلي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، الطبعة الأولى 1404 هـ / 1984 م ، ص ص 53 – 54 ، 64 ؛ لوغوف ، جاك : التاريخ الجديد ، ترجمة محمد الطاهر المنصوري ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 2007 م ، ص ص 439 – 440 .