المقالة العلمية :
هزيمة أثينا وعدوها الخفي
أ . م . د . ندى موسى عباس
وثق المؤرخ الإغريقي ثيوسيديديس Thucydides (460– 395 ق.م) أحداث الوباء كما وثق الحرب البولونيسية Peloponnesian war (431–403ق.م) ، وكان هو نفسه قد أصيب به وعانى منه معاناة شديدة ولكنه تمكن من النجاة فقد شفي منه . ومن ضمن توثيقه وملاحظاته عن الوباء أعلن ثيوسيديديس اكتشافه إن الذي يصاب بهذا الوباء يكتسب مناعة منه ، وبهذا يكون أول من لفت النظر تاريخيا الى لقاح المناعة والتطعيم ضد الامراض الوبائية .
يروي المؤرخ ثيوسيديديس انه في سنة 430 ق . م وأثناء الحرب البولونيسية التي كانت محتدمة بين تحالفي أثيناAthens وسبارطة Sparta، حينما كانت الاستعدادات والتجهيزات العسكرية في أثينا تجري على قدم وساق ! حيث أمتلأ الأسطول الحربي الضخم لأثينا ، قد أمتلأ عن آخره بجيش من البحارة والجنود المدججين بالسلاح بقيادة البطل التاريخي الأثيني بريكليس Pericles (490 – 429 ق.م) ، وبالمقابل أنتظم جيشاً مهيباً جراراً لأسبرطة وأصطف أبطالها الأسطوريين متوثبين لحملة برية طويلة الاجل! وهنا ظهر عدو جديد للاثنيين في مينائهم العسكري الكبير بيرايوس Piraeus (مدينة وميناء بحري رئيسي يبعدان تسعة(9) كيلومترات جنوبي العاصمة أثينا) ، حيث تزاحمت فيه سفنهم الحربية الضخمة ، وما كان هذا العدو سوى وباء غامض فتاك لم تعرف هويته !
ظهر الوباء أولاً في الصحراء الكبرى الأفريقية وبالتحديد في جنوب أثيوبيا ، ثم أنتقل الى مصر ، ومنها الى ميناء بيرايوس الأثيني العسكري ، ومنه حط رحال مسيرته مستقرا في مدينة أثينا ، وقد شكك العديد من الباحثين في طبيعة هذا الوباء الغامض ولم يحسموا أمر تشخيصه ؛ فمنهم من أعتقد أنه الطاعون ، ومنهم من رأى أنه الجدري أو انه الحصبة أو التيفوس أو التيفوئيد أو الإيبولا ، وفي غضون أيام قليلة كان عدداً كبيراً من سكان أثينا والمناطق القريبة منها قد تجمعوا خلف أسوار المدينة ، يتزاحمون فيها بهلع كموج متلاطم ، مسهلين بذلك أنتشار الوباء ! وخلال ذلك باتت الظروف الصحية سيئة للغاية ، ووقف الأطباء عاجزين عن تشخيص طبيعة الوباء الغامض فضلا عن علاجه ، وكانوا أول ضحايا الوباء بسبب معاينتهم للمرضى !
من اعراض المرض ان المصابين كانوا يعانون اولا من الحمى الشديدة ولم يكن الاستحمام بالماء البارد ينفعهم قبل ان يتعرضون للإسهال ، لتظهر لديهم بعدها تقرحات جلدية تمنعهم آلامها من النوم ، وكانت الروائح النتنة تنبعث من أجسادهم عند الموت ، حتى الحيوانات كانت تعافها ، وانتشرت جثثهم في الشوارع وتركت تتعفن بسبب الخوف من انتقال العدوى في حال الاقتراب منها ، ومع ذلك أقدم عدد من المتطوعين على نقل هذه الجثث ودفنها في قبور جماعية عميقة ؛ فأسفر الوباء عن ضحايا بأعداد كبيرة جدا ما يقارب الـمئة ألف (100,000) نسمة ما يعني ثلث سكان أثينا الذين كان تعدادهم في حينها قد بلغ حسب تقديرات المؤرخين من 250 الى 300 ألف نسمة وكان بطل أثينا وقائد جيشها بريكليس Pericles(490 – 429 ق.م) من ضحايا الوباء الغامض .
من بين أبرز وأهم النتائج الخطيرة جراء اجتياح الوباء لمدينة أثينا هو : تراجع مكانة المدينة وانهيار نظامها من كل النواحي (السياسية ، والعسكرية ، والاقتصادية ، والاجتماعية) ، وقد عمت الفوضى العارمة فيها بسبب رفض سكانها الانصياع للقوانين وعدم احترامها ، وهزيمة تحالفها امام تحالف سبارطة رغم ان الجنود كانوا خائفين من انتقال العدوى لهم باحتكاكهم بجنود أثينا المصابين بالوباء، ومن الاحداث المقلقة فيها من جراء الوباء نشوب الفتنة الدينية بالانحراف عن الإلهة اليونانية ، ولا سيما الإله أبولو Apollo ، ورغم إن المشردين والفارين من المناطق والقرى القريبة من مدينة أثينا قد ملؤا لمعابد أثينا ، لكنهم أتهموا الآلهة فيما بعد بنشر الوباء بمدينتهم أثينا بسبب احيازها لسبارطة ونصرها .
المراجع العربية والمترجمة :
- الشيخ ، حسين : اليونان ، دار المعرفة الجامعية ، الإسكندرية ، 1998 م .
- زناتي ، أنور محمود : الطريق الى صدام الحضارات ، مكتبة الأنجلو المصرية ، 2006م.
- عبد الوهاب ، لطفي : اليونان ، مطبعة دار الفكر ، بيروت ، 1979 م .
- علي ، عبد اللطيف أحمد : التاريخ اليوناني ، مطبعة بيروت ، بيروت ، 1976 م .
- الملاح ، دينا وعمر الملاح : كتاب تاريخ الحرب البيلوبونيسية ، المجمع الثقافي ، الأمارات ، 2003 م .
*****************************************